سلسلة مرحلة التخمة والتنمية في الخليج (3)
الحق في المدينة
وماذا بعد؟ ما العمل عندما نرى امام اعيننا مدننا تتحول الى سلع بالإمكان المتاجرة بكل مقوماتها، بما فيها سكانها؟ ما الحل عندما تقاس اهمية ومقدار الارض فقط بالسعر الذي بإمكانها كسبه في الاسواق العقارية، وحين يتحول الحي الى مجرد حفنة من العمارات والدكاكين التي يتم تشييدها للربح السريع على حطام البيوت التاريخية؟ وحين يتحول اغلب سكان المدينة الى رحالة مهمشون، غير مسموح لهم
بإرساء اية جذور في المدينة، حيث تصبح المدينة غريبة وموحشة حتى على من سكنها طيلة حياته؟
مالعمل حين بالكاد نجد اية مناطق عامة تجمع مختلف الناس، وتصبح نقطة التقاءهم الرئيسية هي المجمع التجاري “المول”، او عندما تتقاطع سياراتهم في الشارع، فلا يوقفهم للحوار الا لو لا قدر الله وارتطموا في حادث؟ ما العمل عندما تعيش اغلب فئات المجتمع في معزل عن البقية، حيث يتقسم المجتمع الى كانتونات طبقية، تعيشها طوائف واثنيات مختلفة في كثير من الاحيان لا تنطق حتى نفس اللسان؟
هز عام 1968 العالم وغير قيمه كليا، فتفجرت مظاهرات واحتجاجات عمت اغلب بقاع الارض، ولهذه السنة مقاربات كثيرة مع الاحتجاجات التي نمر فيها في عالمنا العربي حاليا. المطالب في اساسها ركزت على حقوق المهمشين والمنسيين في المجتمع، فانفجرت المظاهرات في امريكا احتجاجا على حرب فيتنام، وكانت حركة الحقوق المدنية المطالبة بالمساواة امام القانون لجميع الاعراق والاجناس في اوجها. في فرنسا اشتهرت مظاهرات الطلبة المحتجين على الاوضاع في الجامعات، وسرعان ما لحقت بهم النقابات في اضراب عام. الحركة النسائية والمناهضة للعنصرية ايضا كانت في قمتها، كما تعتبر 1968 مولد الحركة المناصرة للبيئة. كانت المحصلة بأن توجت هذه السنة باحتجاجات عارمة على الوضع القائم ارعبت مراكز القوى التقليدية وادت الى اصلاحات متعددة في محاولة لامتصاص هذا المد الاحتجاجي. مولد الحركة المناصرة للبيئة. كانت المحصلة بأن توجت هذه السنة باحتجاجات عارمة على الوضع القائم ارعبت مراكز القوى التقليدية وادت الى اصلاحات متعددة في محاولة
لامتصاص هذا المد الاحتجاجي.
في نفس العام، وفي خضم الاحتجاجات التي اجتاحت اغلب عواصم العالم، اطلق المفكر الفرنسي هنري ليفيبر صرخته الشهيرة “الحق في المدينة”. مثل “الحق في المدينة” رؤية جديدة تقدمية تعدت في مضامينها المفهوم الضيق المتعارف عليه لحقوقالانسان. فالحق للمدينة يؤكد في اساسه حق المجتمعات في تقرير ماهية وشكل و سبل استعمال محيطها بنفسها. وبما ان اغلب سكان الكرة الارضية هم الآن مدنيون، وبما ان المدينة هي المكان التي يترعرع فيه الانسان ويقضي اغلب حياته من المولد حتى الدفن، فيتشكل هذا الحق اساسا حول التحكم في المدينة ومقوماتها و طبيعة الحياة فيها.في نفس العام، وفي خضم الاحتجاجات التي اجتاحت اغلب عواصم العالم، اطلق المفكر الفرنسي هنري ليفيبر صرخته الشهيرة “الحق في المدينة”. مثل “الحق في المدينة” رؤية جديدة تقدمية تعدت في مضامينها المفهوم الضيق المتعارف عليه لحقوق الانسان. فالحق للمدينة يؤكد في اساسه حق المجتمعات في تقرير ماهية وشكل و سبل استعمال محيطها بنفسها. وبما ان اغلب سكان الكرة الارضية هم الآن مدنيون، وبما ان المدينة هي المكان التي يترعرع فيه الانسان ويقضي اغلب حياته من المولد حتى الدفن، فيتشكل هذا الحق اساسا حول التحكم في المدينة ومقوماتها و طبيعة الحياة فيها.
على مر التاريخ المعاصر، ومنذ اقتحام سجن الباستيل في الثورة الفرنسية عام 1789، انطلقت اغلب الثورات والانتفاضات من المدينة، حيث كانت المدن دعم ووقود الانتفاضات الرئيسية. اغلب مواطني العالم العربي هم من سكان المدن، ومن الملفت ان في كل الانتفاضات العربية توجه الناس الى الاماكن العامة كنقطة التقاءهم واحتجاجهم الرئيسية، حتى ولو كانت هذه الاماكن عبارة عن مفترق طرق للسيارات، مثلما توجه المحتجون في مصر الى ميدان التحرير. وكأنما كان المنتفضون يعلنون احتجاجهم على “تسليع” وخصخصة المدينة وتهميش اغلب سكانها، فما كان من المحتجين الا ان اعلنوا عن خلق مجتمع جديد في ساحة عامة يختارونها، يرَحَّب فيه بكل من كان تواقا الى مجتمع جديد، لا تتواجد فيه سلطة ولا متنفذين ولا حواجز تسور الاراضي وتقسم المجتمع و تمنع الدخول، بل يشارك الجميع فيه بناء على حقه في المشاركة في تشكيل مجتمعه ومحيطه.
بالإضافة الى الانتفاضة على الذل والتهميش ومطالبها بالحرية والكرامة، برأيي ان عامل رئيسي يفسر الاحتجاجات في العالم العربي هو الاحساس بالغربة والرفض للمتغيرات التي اجتاحت البيئة والمساحة والمدينة التي نعيش فيها، خاصة واننا مهمشون بلا دور يذكر في هذه التغيرات. فالبحر والنخل والعمران وحتى البشر يتغيرون بوتيرة رهيبة، والمطلوب من الناس هو تقبل هذا الامر بل التصفيق والتطبيل له. في خضم هذه المتغيرات التي جعلت محيط الانسان يتبدل بوتيرة يصعب فهمها، حيث حولته غريبا في وسط مجتمعه، لم يبق الا الانتفاض على ما يحصل لمحيطه والصراخ ب”كفى”، والمطالبة بأن يكون الانسان العنصر الاساسي والفاعل في تشكيل حياته ومحيطه.
الحق في المدينة تقدمي لانه يطالب بحقوق وتغيرات جوهرية تتعدى الشكليات. هو لا يطالب فقط بانشاء مجالس بلدية او نيابية لا حول لها ولا قوة، بل يطالب بتغيير جذري في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تدير حياة الانسان ومحيطها. هو يطالب بإعادة تركيب الوضع الحالي المبني على تحكم رؤوس الاموال والمتنفذين في جل ما يشكل ويدير المدينة، وهو ايضا يطالب بأن يكون مواطني هذه المدن هم اساس من يتخذ القرار. هو ايضا يدرك بأن مربط الفرس يقع في من يملك الموارد وله احقية استعمالها، ولذلك يطالب باسترجاع كل الاملاك والاراضي والشواطئ التي استولي عليها ظلما واستئثارا، وتحويلها الى ما يخدم المجتمع عامة. الحق في المدينة معني بإحياء والحفاظ على أحياء المدن التاريخية ، والتي لطالما كانت نبض اية مجتمع ومصنع حراكها الوطني، بدلا من تحويلها الى سلعة يتم المتاجرة بها ويتحكم بها المتنفذين لبناء حشود لا تنتهي من الشقق والدكاكين التي لا هدف لها سوى الربح السريع.
الجميل في الحق في المدينة بأنه ليس حكرا على احد، بل بإمكانه جمع تحت شعاره ساكني المدن في كل بقاع العالم. وبالفعل فقد اصبح “الحق في المدينة” صرخة ترددها تحركات عالمية متعددة، من حملة احتلال وال ستريت ولندن الى حركات تقدمية في امريكا الجنوبية، وصولا الى بروز حركة “مشاع” مؤخرا في بيروت. الجميل ايضا في الحق في المدينة انه لا يعتمد على طائفة او اثنية، عقيدة او جنس، بل هو حق يجمع كل من يعيش في هذه المدن، حيث يجمعهم المصير الواحد لأنهم يعيشون في المكان نفسه. بل هو يجمعهم على هدف واحد، وهو حق تقرير ماهية وطبيعة الأرض والمساحة التي نعيش عليها.
قد نكون من طوائف وعقائد وخلفيات مختلفة، ولكن الارض التي نعيش عليها واحدة، ويجمعنا فيها مصير واحد، وكلما اسرعنا في ادراك ذلك كلما تمكنا من بناء مجتمع افضل يربطنا حول وحدة الأرض والمصير.
المصدر: صحيفة أسواق البحرينية