المحرق والمدينة المتحولة في الخليج العربي

سلسلة مرحلة التخمة والتنمية في الخليج (2)

المحرق والمدينة المتحولة في الخليج

 

المحرق و اكسفورد

مدينتان قدر لي ان اقضي فيهما النصيب الاكبر من حياتي حتى هذه اللحظة و ان تتكون في احضانهما تطلعاتي و آرائي. في انجلترا, قضيت تسع سنين من عمري في اكسفورد, تلك المدينة التي اشتهرت بجامعتها و قاموسها الذي يزين رف اغلب طلاب اللغة الانجليزية. اما المدينة الام و موطن الطفولة و الذكريات و التي لا زلت اقطن ازقتها المتعرجة فهي المحرق, و تحديدا في فريج محطة الباصات القديمة “ستيشن”.

و قد يكون ما شدني الى تلك المدينة التي تبنتني لتسع سنوات في انجلترا هي ملامح الشبه التي رسمتها في مخيلتي بينها و بين المحرق. فكلتا المدينتين تتميز بالعراقة التاريخية التي تنعكس في طبيعتيهما المعمارية. فالازقة و الحارات الضيقة المشبعة بارث الماضي و النسيج الاجتماعي الذي تشكل في خاصرتها جعلني انظر الى اكسفورد ك”المحرق الثانية”  لي في الغربة.

شديت المتاع الى انجلترا  عام ٢٠٠٠, و عدت لاستقر مرة اخرى في بيتنا في فريج ستيشن بالمحرق عام ٢٠٠٩, و لا يخفى على احد ان هذه الفترة  تزامنت تقريبا مع الطفرة النفطية الحديثة التي شهدتها المنطقة. خلال هذه الفترة, و عبر رحلات العودة المتكررة الى البحرين, قدر لي ان اعايش الاحداث و المتغيرات التي مرت على هاتين المدينتين خلال هذا العقد من الزمن.

مما لا شك فيه ان كلتا المدينتين شهدت نموا اقتصاديا متسارعا في هذه الفترة, و لنا ان نقارن بين اوجه النمو في  هاتين المدينتين. اكسفورد تعتبر من اغنى المدن البريطانية و اعلاها في مستوى المعيشة, و لا يتجاوزها في سعر العقار الا مباني وسط مدينة لندن. و قد اسس هذا النمو الاقتصادي اولا و اخيرا على اقتصاد المعرفة. فمورد المدينة الاساسي  هو التعليم الاكاديمي, اكان ذلك عن طريق جامعتها او عن طريق السياح المتوافدين للنهل من ارث و معالم هذا التاريخ المعرفي.

رغم النمو الذي مرت به المدينة, فهي لا زالت محافظة على كل ملامحها التاريخية و طوابعها المعمارية. فها هي الكليات التي يتجاوز عمرها السبع مئة عام تواصل تعليم النخبة من الاجيال المتتالية, و ها هي المباني التي شاهدت ذلك الكم من حكام بريطانيا يمرون تحت ظلالها محافظة  على نفس شاكلتها رغم مرور القرون على تشييدها,  و لو كان لشخص ان يسافر عبر الزمن و ان يرجع الى الماضي ثلاث مئة سنة لصعب عليه ان يلاحظ الفرق في شكل المدينة.  و يندر عليك ان تمر على “فريج” في اكسفورد بدون مشاهدة تمثالا او تذكارا نصب لاحد رجالات و نساء هذه المدينة عرفانا باعماله و تخليدا لذكراه. و المدهش في الامر ان المناطق التاريخية و القديمة هي  الاغلى ثمنا و الاكثر طلبا, فرغم قدم عمرها الا ان الاعتناء بها جعلها جوهرة المدينة التي تتباهى بها لبقية العالم.

هناك جهد جبار و قوانين صارمة  للمحافظة على هذا الارث الذي اصبح مبعث فخر المدينة و دخلها الاقتصادي الاول.  فالكلية التي درست فيها كانت تصرف ما لا يقل عن ثلث انفاقها على ترميم و تصليح مبانيها ذات الاربع مئة عام. و اذكر اني  كنت اعيش في بيت مغمور في احدى ضواحي المدينة, بيت عادي لا يميزه شيئا عن المئات حوله التي بنيت على النمط المعماري الفكتوري القديم. و اذكر انه في اول اسبوع اتت صاحبة المنزل, و اتكأت بيدها على احد الجدران, و كان جدارا عاديا طيني اللون.  قالت موجهة حديثها لنا: “ارجو الا تمسوا شيئا في هذا الجدار بالذات, لان عمره تجاوز المئة عام, و القانون لا يسمح بان نغير فيه و شاكلته و لو شبرا واحدا, و هذا ينطبق على هذا الجدار بالتحديد دون غيره.”

القانون لا يسمح بمسه باي شاكلة من الاشكال, و هذا جدار مغمور في منزل مغمور في ضاحية المدينة! فلك ان تتخيل ما هو العقاب ان اضريت  باحد معالم المدينة التاريخية الرئيسية!

لنعد الى المحرق, و انا هنا اتكلم عن مدينة المحرق التاريخية الممتدة من مدرسة الهداية شمالا الى الحالة جنوبا. اشتهرت هذه المدينة بصلابة و “عناد” اهلها, و لك ان تسأل الانجليز عما واجهوه في ازقتها ايام الهيئة في خمسينيات القرن الماضي و  في ثورة مارس عام ٦٥. و المعروف عن هذه المدينة هو تعلق سكانها بها و فخرهم بالانتماء اليها و فرجانها المتعددة.

و لكن جبروت مرحلة التخمة و التغيرات المصاحبة لها لا يبالي بتاريخ او ارث اي مكان يقف في طريقه. فعلى مدى العشر سنون الاخيرة لم تسلم المحرق من تغلغل النمو الغير منظم اليها. فها هي احيائها التاريخية متهالكة و مهملة, و ها هي بيوتها القديمة تدمر لتعلو في مكانها عمارات شقق و دكاكين. وواحدة تلو الاخرى اجبرت عوائلها على هجر ازقتها بشكل متسارع لصعوبة المعيشة فيها, حتى لم يتبق في احيائها سوى كبار السن و من لم تتوفر لهم الفرصة المادية للانتقال و “المتشددين” الذين يرفضون مغادرة مدينتهم الأم و يتشبتون بها الى آخر رمق.

في المقابل, حل مكانهم  بشر في “ترانزيت” يبحثون عن غرفة ليقطنوها في احدى هذه العمارات لبضع من الوقت بينما يسعون وراء لقمة العيش, و هكذا بدأت تتحول بيوت المدينة القديمة الى معسكر عمالة مؤقتة. اما المساحات الفاضية و “البراحات” التي كان اطفال الحي يستأتنسون بها فملأتها السيارات المكدسة, فصعب ان تجد مساحة فاضية في المدينة الا ما يكفي لان يكون مسارا لهذه السيارات لتعبر من حي مكتظ الى آخر.

في هذه المرحلة, مرحلة التخمة, ذات النمو المطرد مهما كان الثمن و مهما وجب تدميره, يبدو ان الهامش للارث التاريخي معدوم. ففي رقعة البيت القديم تتشكل صورة عمارة تعد صاحبها بدنانير معدودة, و في مكان الحي التاريخي يتبلور مجسم دكاكين يغري ملاكها بعوائد ايجارها. حتى بدى ان لا تاريخ و لا نسيج اجتماعي و لا حضارة مدينية سيقف في وجه زحف العمارات و السيارات المتزايد. و السؤال المطروح هو, هل هذا قدر المحرق التاريخية في عصرنا هذا, عصر التخمة, و هو ان تتحول الى شقق و دكاكين و مواقف سيارات و معسكر عمالة مؤقتة؟

و للحديث بقية الاسبوع القادم.

المدينة المتحولة في اقطار الخليج العربي

لنوسع دائرة الحوار  ليشمل مدن الخليج العربي ككل. و لنستعمل جزيرة المحرق كمثال, تلك الجزيرة التي تحتضن المدينة التاريخية و القرى  المنتشرة حول شواطئها. فما يطرأ على جزيرة المحرق يساعد في فهم ما يحصل للمدن التاريخية في البحرين و دول الخليج العربية عامة.

لا يخفى على احد التغير المهول الذي طرأ على جغرافيا و تركيبة جزيرة المحرق على مدى السنوات العشر الاخيرة, حتى بات من الصعب الآن تسمية المحرق بجزيرة, فهي اقرب الى شكل الاخطبوط المتعدد الاذرعة. فحجمها تضاعف اكثر من مرة, و شواطئها في الاجمال تلاشت, فحلت مكانها جزر اصطناعية على البحر المدفون و التي اخذت في الغالب شكل المجتمعات المغلقة للطبقات المقتدرة.  حتى بدا انه كتب على جزيرة المحرق ان تعانق  و تندمج مع الجزيرة الام في كتلة يابسة واحدة, فها هي البسيتين ما انفك تمد ذراعها الى المنامة, و لم يتبق على لم الاحبة الا بضعة امتار من البحر الذي لم يدفن بعد “عن العين و النفس” و تجنبا ل”حكي الناس”.

هذه الظاهرة ليست بحصرية على المحرق و لا على البحرين, بل هي تتكرر بشكل موسع في كل دول الخليج. والحالة الاساسية التي تميزها هي التغير المستمر في ملامح و عمران و حتى جغرافيا المدينة, فلا البيوت و لا النخل و لا حتى البحر في مأمن من الاقتلاع و الاستبدال.  كل هذا قد يحصل في سنين بل اشهر معدودة, فلو قدر لاحد ان يشد الرحال الى الخارج طلبا للعلم, لما عاد بامكانه التعرف على المدينة عند عودته من الدراسة.

يسمي الباحث السعودي مشاري النعيم هذه الظاهرة في دراسته حول “دبي و المتشبهات بها” من مدن الخليج العربية ب”مدينة اللحظة”, او “المدينة الحديثة المتحولة”, و التي تتميز بعدم استقرارها و تضارب ملامحها المعمارية مع جوهرها  الثقافي و النسيج الاجتماعي. فمع بزوغ الطفرات النفطية المتوالية و تكون ثروات هائلة على مستوى المنطقة, “اصبحت ثقافة التغيير و البحث عن كل ما هو جديد هي السياسة العامة للتنمية العمرانية في المنطقة. “الحداثة المتحولة” لم تراع النظم الاجتماعية, و لم تتغلغل في اسلوب الحياة لسكان المدينة, و بالتالي اصبحت “خارجية” او “برانية”, فصلت المدينة بشكل واضح عن سكانها, فما كان يحدث على المستوى العمراني المادي لا يعبر عن المكون الاجتماعي و القيمي لمن سيسكنون هذه المدن.”

و هكذا اصبح شكل و تركيبة الغالبية من المدن الخليجية في تحول و تقلب مستمر, و لها ان تتغير في غضون ليلة و ضحاها بناء على الاغراء المادي و اهواء متخذي القرار. فما كان بحرا يوما قد يصبح ارضا, و ما كان نخلا يتحول الى فيلا, و ما كان بيتا يبرز في مكانه مجمع تسوق. و حتى الناس فبالامكان تغييرهم بجرة قلم, فقد يقدر لهم ان يعيشوا في هذه المنطقة يوما او ان ينقلوا الى مدينة جديدة مساءا آخر بناءا على “المعطيات الاقتصادية”.  و من يجد نفسه بحارا او مزارعا في فترة من الزمن, قد يستفيق ليجد نفسه قد ابتعد كليمترات عده من البحر و ان النخل قد اندثر. وهكذا فعليه ان يعيد اختراع نفسه من صياد او مزارع الى شاكلة و حرفة جديدة تواكب المتطلبات التي تفرضها عليه هذه المتغيرات المتسارعة و المستمرة.

فالمدينة لم تعد تعكس و تعبر عن رغبات و نمط حياة اهلها و ساكنيها, فهم عامة مهمشين و بدون اي دور فعال في تحديد ملامحها العمرانية و الاجتماعية. فها هم يشاهدون العمارات و الابراج تعلو من حولهم و ليس في يدهم الا ان “يتطمشوا”, فهم قد لا يكونوا حتى من ساكني منطقتهم الحالية في المستقبل القريب جدا. و هكذا تم هز الجذور التي كانت تربط السكان بمدنهم و قراهم التاريخية, و في المقابل امست المدينة الحديثة  مفهوما متقلبا قد يتبدل هو و ساكنيه في غضون ايام معدودة. و هكذا اصبح ما يحدد شكل و حتى جغرافية المدينة ليس سكانها, و الذين يتغيرون بنفس سرعة تغير المدينة , بل المردود المادي و تطلعات متخذ القرار.

و لو كنا لنقارن حالة المحرق مع باقي مدن المنطقة لتعجبنا و ذهلنا من صمود المدينة حتى هذه اللحظة في وجه هذه المتغيرات. ففي دبي و الدوحة, على سبيل المثال, لم يتبق الا القليل الذي يربط شكل هاتين المدينتين الى ما كانتا عليه قبل خمسين سنة, فما بالك لو قارناهما بالوضع قبل مئة سنة . وحتى الكويت فلم يتبق من المدينة التاريخية الا بعض الاطلال من السور القديم لتذكير الناس بما كان حاضرا في الزمن الليس ببعيد. اما المحرق فلا زالت تحافظ و لو بقليل من شكل و تركيبة احيائها التاريخية, فهاهو “فريج البنعلي” في موقعه منذ اكثر من مئتي سنة, و سوقها التاريخي في قلب الجزيرة لا زال مقاوما رغم تراكم القرون عليه.

لكن تقلبات “المدينة المتحولة” ما لبثت و ان تغلغلت الى قواعد المحرق, و كما ذكرنا في مقالي الاسبوعين الماضيين فوتيرة التغيرات تصاعدت بشكل ملحوظ على مدى السنوات العشر الاخيرة مع بروز ظاهرة “الشقق و الدكاكين و مواقف السيارات.” و السؤال هو هل سيتبق شيء من المدينة التاريخية بعد ان تنتهي مرحلة التخمة من النخر فيها؟ حتى اني لم استغرب عندما خاطبني احد الاصحاب, و هو شخص تنحدر عائلته من ازقة المحرق التاريخية رغم انه لم يعد يقطنها, بان “هذه المدينة خرابة, فبيوتها متهالكة و شوارعها مكسرة و ينقصها التخطيط المدني و العمراني الحديث, و لو كان الامر بيدي لهدمتها برمتها الى الارض و اعدت بناءها و تخطيطها بشكل يشبه باقي الضواحي الحديثة في البحرين.”

لم تدهشني هذه الكلمات, فاذا كان البحر قد تحول الى يابسة, و النخل الى مواقف سيارات و دكاكين, فهل من المستغرب ان يأتي اليوم الذي يتحول فيه “فريج البنعلي” الى “محرق ميغا سوبر شوبنج مول”؟

المحرق التاريخية – عوامل المتغيرات في تكوينتها

ما الذي حصل في المحرق التاريخية, و ماذا ادى الى وضعية المدينة الحالية, حيث تتهاوى البيوت القديمة واحدة تلو الاخرى لتبرز في مكانها اعدادا متزايدة من الشقق و الدكاكين و السيارات, و ما الذي ادى الى هجر اهلها لها بوتيرة متصاعدة؟

العديد من مدن العالم تمر في مراحل شد و جذب خلال حياتهم بين ما يعرف ب”الاضمحلال الحضري (urban decay)” في مقابل “التجديد الحضري (urban renewal)”. فاضمحلال المدينة يتميز بانحسار  سكانها و سقوط مبانيها تحت تأثير الاهمال و التردي, و العكس هو الحال في التجديد الحضري, حيث يتم اعادة اعمار المدينة التاريخية بشكل يلائم طابعها المعماري و ما يعيد بث الحياة الاجتماعية فيها (و ما حصل في وسط مدينتي مانشستر و ليفربول, و التي تم اعادة تأهيلهما مع الحفاظ على الجواهر المعمارية فيها هو مثال على ذلك).

لكن ما يحصل في المحرق هو لا هذا و لا ذاك. فكما في حالة الاضمحلال الحضري فكثير من مبانيها و ازقتها وقعت تحت تأثير الاهمال و الهجران, و لكن على عكس ما يرافق هذه ظاهرة فنرى ان  فالمشاريع التجارية و الزحمة المرورية و اسعار العقار ما انفك ترتفع, و هذ الامور عادة لا تحصل في منطقة تعاني من الاضمحلال الحضري. فماالذي يحدث في المحرق بالضبط؟

لنترك المصطلحات و المسميات للحظة و لنركز على سرد ما حصل على ارض الواقع في المحرق, و لنا تسميته ما شئنا فيما بعد. مع بروز الطفرة النفطية في سبعينيات القرن الماضي و النمو السريع في عدد سكان البحرين, طرأت حاجة ملحة لتوفير السكن الملائم للاعداد المتزايدة  التي تبحث عن سقف يأويها. و بما ان مدن البحرين التاريخية, المنامة و المحرق, لم يكن بامكانها استيعاب هذه الاعداد في ظل غياب مخطط مدروس و مفعل  لاعادة تأهيل هذه المدن , اضطر الكثير من الناس الى العيش خارج حدود المدينة التاريخية.

توجهت اغلب هذه الهجرة الى ضواحي بنيت على اطراف المدينة القديمة (كالمجمعات السكنية الجديدة في عراد او البسيتين ) او الى المشاريع الاسكانية الحديثة في الدولة (كمشروع مدينة عيسى الاسكاني, اول مشروع من نوعه في البحرين ). في البداية كان الهدف هو العيش بالقرب من المدينة التاريخية لتركز النشاط الاجتماعي و الاقتصادي فيها, لكن مع توفر السيارات و طرق المواصلات الحديثة اصبح بالامكان العيش في مناطق ما انفكت تزداد بعدا. و هذه الظاهرة, ظاهرة زحف المدينة الافقي (urban sprawl), بحيث تكبر الضواحي المتمحورة حول المدينة التاريخية الام,هي ظاهرة صاحبت نمو العديد من مدن العالم (خاصة تلك في امريكا الشمالية).

في غياب التخطيط المدني المنظم, ما يواكب انتقال السكان الى الضواحي هو الاضمحلال الحضري (urban decay في غياب التخطيط المدني المنظم, ما يواكب انتقال السكان الى الضواحي هو الاضمحلال الحضري (urban decay Levitra) في وسط المدينة التاريخية, فمع هجر العوائل لاحيائها التاريخية لا يبقى في البيوت القديمة  الا كبار السن, اصحاب “البيت العود”, لرفضهم مغادرة البيوت التي تعودوا عليها. و تدريجيا تتحول البيوت الى بيوت مهملة او مهجورة مع مرور الزمن عليها.) في وسط المدينة التاريخية, فمع هجر العوائل لاحيائها التاريخية لا يبقى في البيوت القديمة  الا كبار السن, اصحاب “البيت العود”, لرفضهم مغادرة البيوت التي تعودوا عليها. و تدريجيا تتحول البيوت الى بيوت مهملة او مهجورة مع مرور الزمن عليها.

لكن مع بروز الطفرة النفطية اجتمعت عوامل فريدة من نوعها في المحرق (و المنامة) جعل التطور فيها ياخذ منأى آخرا, و يمكننا تلخيصها في ثلاث اتجاهات رئيسية: النمو الغير مسبوق في اعداد العمال الوافدين, تصاعد عوائد الريع العقاري, و الزيادة الكبيرة في المحلات التجارية. هذه العوامل تبلورت في جو غاب فيه التنظيم المدروس.لكن مع بروز الطفرة النفطية اجتمعت عوامل فريدة من نوعها في المحرق (و المنامة) جعل التطور فيها ياخذ منأى آخرا, و يمكننا تلخيصها في ثلاث اتجاهات رئيسية: النمو الغير مسبوق في اعداد العمال الوافدين, تصاعد عوائد الريع العقاري, و الزيادة الكبيرة في المحلات التجارية. هذه العوامل تبلورت في جو غاب فيه التنظيم المدروس.

مع انعدام التخطيط و التنظيم الرسمي للعملية, لاقت اغلب هذه العوامل فرجتها في ازقة المدينة العتيقة. ففي مكان البيت القديم  تراءت فرصة بناء شقق لاسكان العمالة الوافدة, و التي, بسبب تهالك احياء المدينة, قدر لها ان تكون من الطبقة الكادحة المحدودة الدخل. و بما ان المدينة التاريخية هي من المناطق القليلة التي يسمح فيها بافتتاح المحلات التجارية بدون اية قيود فعلية, برزت فرصة الحصول على الريع العقاري و الربح التجاري من الدكاكين في ازقة هذه المدن. مع انعدام التخطيط و التنظيم الرسمي للعملية, لاقت اغلب هذه العوامل فرجتها في ازقة المدينة العتيقة. ففي مكان البيت القديم  تراءت فرصة بناء شقق لاسكان العمالة الوافدة, و التي, بسبب تهالك احياء المدينة, قدر لها ان تكون من الطبقة الكادحة المحدودة الدخل. و بما ان المدينة التاريخية هي من المناطق القليلة التي يسمح فيها بافتتاح المحلات التجارية بدون اية قيود فعلية, برزت فرصة الحصول على الريع العقاري و الربح التجاري من الدكاكين في ازقة هذه المدن.

هذه العوامل ازدادت حدتها بشكل ملحوظ خلال العشر السنين الاخيرة, فتصاعدت الشقق و الدكاكين في اغلب احياء هذه المدن القديمة و ازداد هجر العوائل لبيوتها بشكل ملحوظ. ففي دائرتنا, الدائرة الثالثة في المحرق, و التي تمثل جزءا كبيرا من المحرق التاريخية امتدادا من حي “ستيشن” شمالا الى بيت الشيخ عيسى بن علي جنوبا, كان تعداد الكتلة الناخبة في انتخابات ٢٠٠٦ فوق الخمسة آلاف شخص, اما في انتخابات ٢٠١٠ فقد هوى هذا الرقم الى  الثلاثة آلاف شخص, اي بانخفاض فاق ال٤٠٪. اذن في غضون اربع سنوات, يبدو ان المنطقة فقدت حوالي ال٤٠٪ من مواطنيها البالغين.هذه العوامل ازدادت حدتها بشكل ملحوظ خلال العشر السنين الاخيرة, فتصاعدت الشقق و الدكاكين في اغلب احياء هذه المدن القديمة و ازداد هجر العوائل لبيوتها بشكل ملحوظ. ففي دائرتنا, الدائرة الثالثة في المحرق, و التي تمثل جزءا كبيرا من المحرق التاريخية امتدادا من حي “ستيشن” شمالا الى بيت الشيخ عيسى بن علي جنوبا, كان تعداد الكتلة الناخبة في انتخابات ٢٠٠٦ فوق الخمسة آلاف شخص, اما في انتخابات ٢٠١٠ فقد هوى هذا الرقم الى  الثلاثة آلاف شخص, اي بانخفاض فاق ال٤٠٪. اذن في غضون اربع سنوات, يبدو ان المنطقة فقدت حوالي ال٤٠٪ من مواطنيها البالغين.

و ليس بالغريب ان تحتد وتيرة التغير في المدينة التاريخية, فمع هجران كل عائلة لبيتها يفقد بقية الحي جزءا من معارفه و نسيجه الاجتماعي.  في المقابل يبرز شبح عمارة و دكاكين, تزيد الاكتظاظ و السيارات و مشقة الحياة في الحي. و هذه العملية تتراكم حتى تصل الى ما يسمى ب”النقطة الفاصلة” (tipping Levitra point), حيث تصل العملية الى مرحلة الدفع التلقائي, فتتضخم اعداد العمارات بشكل متسارع و يزيد هجران اهل المنطقة لها بشكل مكثف نتيجة تجذر عوامل هذه الظاهرة. و يبدو ان مرحلة العشر السنين الاخيرة, مرحلة التخمة, قد اوصلت المحرق التاريخية الى هذه النقطة.

و لنا ان نقارن بالحالة في سبعينيات القرن الماضي, حين كانت العوائل ترحل عن حاراتها بمضض,  فلو كانت الامكانيات موجودة لفضلت البقاء في نفس حيها القديم بالقرب من اهلها و بقية معارفها. اما اليوم فمن الصعب ان تجد من يتطلع الى العيش في ازقة المدينة القديمة نظرا  لتهالكها و اكتظاظها و انحسار النسيج الاجتماعي التاريخي عنها. هذا فيما عدى اولئك “القابضون على الجمر”, الذين يرفضون مغادرة الاحياء التي تربوا فيها.

يحل علينا في الايام القادمة عيد الاضحى المبارك, و في هذه المناسبة يعود الكثير من ابناء البحرين الى “البيت العود” في ازقة مدن البحرين التاريخية للتواصل مع الاهل و الاصدقاء و شوقا الى حنين الماضي. و ستكون هذه فرصة مناسبة لان يمدوا بصرهم و يتمعنوا في حالة مدينتهم التاريخية, و لهم ان يسألوا انفسهم, هل هذا الوضع هو ما اريده ان يكون مصير مدينتي الام؟ و للحديث بقية الاسبوع القادم.

عيدكم مبارك و عساك من العايدين السعيدين.

المدن التاريخية تستحق ان تنقذ

المدن و القرى التاريخية في البحرين و باقي دول مجلس التعاون تستحق ان تنقذ و ان يحافظ عليها. ليس فقط لاهمية مبانيها و بيوتها المعمارية, فهذه الصروح كنوز وطنية و تعتبر جزء اساسي من الارث التاريخي لشعوب المنطقة. و لكن ما هو اهم من المباني هو التكوينة الاجتماعية و شخصياتها التي تفرزها هذه المدن .

لنأخذ مدينة المحرق التاريخية كمثال. في المساحة الصغيرة التي تمتد عليها (و التي لا تتعدى البضعة كيلموترات المربعة ), ساهمت هذه المدينة في انتاج خيرة من ابناء و طاقات البحرين التي يفتخر بها شعبها و المنطقة ككل. على الصعيد النضالي, ترعرع في ازقة المدينة رجالات من  هيئة الاتحاد الوطني كعبدالعزيز الشملان, محمد قاسم الشيراوي, ابراهيم فخرو, جاسم مراد و محمد كمال الشهابي. في الفترة التي تبعت الهيئة, تحرك محمد جابر الصباح, على ربيعة, محمد بونفور, عبدالرحمن النعيمي, هشام الشهابي و رفاقهم ن الذين بدأوا حياتهم النضالية في ازقة المدينة. و لا يمكن نسيان دور المدينة في بلورة الحركات السياسية الرئيسية في البحرين, بدءا من اول تشكيل سياسي في الدولة (الاخوان المسلمين, و الذي كان مقرهم في منطقة بيت بن مطر ) وصولا الى حركة القوميين العرب و الجبهة الشعبية.

على الصعيد الفكري, ترعرع محمد جابر الانصاري  في حي محطة الباصات القديمة (ستيشن), و الدكتور علي فخرو قضى اول ايام عمره في فريج الصنقل.  من الفنانين محمد بن فارس, ضاحي بن وليد, محمد زويد, يوسف فوني, عبدالله يوسف, سلمان زيمان, احمد الجميري. اما الرسامين فعبدالله المحرقي و راشد العريفي و المصور عبدالله الخان و اللائحة تطول. قائمة عريضة من الشعراء تساجلوا و تجادلوا في حارات المدينة, من بينهم عبدالرحمن المعاودة,  علي عبدالله خليفة و الشيخ عيسى بن راشد الخليفة. على الصعيد الصحفي عبدالله الزايد و ابراهيم حسن كمال و علي سيار. على الصعيد النقابي عبدالله مطيويع, يوسف صباح البنعلي, يوسف يتيم و علي الشيراوي. اما من النساء  فالاديبة نورة الشيراوي و المناضلتين ليلى و بثينة فخرو و غيرهن الكثير.  و هؤلاء ليسوا الا بقليل ممن احتضنتهم ازقة المدينة من اعلام هذا الوطن و التي تمرست في شتى المجالات من مهنية و ادبية و نضالية, و ليعذرني ممن لم يتسن لي ذكر اسمائهم و افعالهم التي اضاءت تاريخ البحرين. و نفس القصة تتكرر في المنامة و باقي مدن و قرى البحرين, و ليسمح لي ابناء تلك المناطق بأن اترك سرد تاريخ رجالاتها لاحفادها الاكثر الماما بحذافيره.

لم تبرز المدينة التاريخية هذه الشخصيات بدواعي مادة عجيبة في تربتها, او بسبب خلطة سحرية في “النامليت” المنتج في دكاكينها. ما افرز هذه الشخصيات هي التركيبة الاجتماعية التي ترعرعوا بين احضانها. فازقة المدينة التاريخية عانقت بين جدرانها التاجر و العامل, الغني و الفقير, الشيعي و السني, الهولي و البلوشي والعجمي و البحراني و ابناء القبائل في مساحة لم تتعد في حجمها احد مجمعات “الشوبنج مول” التي تكاثرت في الآونة الاخيرة. ففي مسافة لا تتعد العشر دقائق سيرا تلاقت المدارس و الجوامع و المآتم و المجالس و البيوت و الدكاكين. لم تفرق الازقة بين رعاياها بناء على ثراء او طائفة او اثنية. جمعتهم كلهم في منطقة صغيرة حميمة حيث تفاعل و تشارك و اجتمع كل هذا الطيف من الناس, و لم تنتج طائفيا او متزمتا او صاحب فتنة, بل انتجت محرقيا و بحرينيا يفتخر بمدينته و وطنه. فليس لك ان تفرق بين طائفة او اصل بناء على اللهجة, فالمحرقي لهجته محرقية مهما كانت انتماءاته.

هذه التركيبة الاجتماعية شجعت, لا بل اجبرت, سكانها على التكاتف و التعاون فيما بينهم. فالحاكم والحداد و التاجر و السماك و البناء و شيخ الدين وصولا الى الخباز و “الولادة” (و اهل المحرق لا زالو يتذكرون “ام جان”, التي احتضنت بين ايديها اجيالا من ابناء المدينة في فجر حياتهم), عاشوا جنبا الى جنب و عملوا متكاتفين للنهوض بمجتمعهم. و ادعو من تيسر له الامر ان يقرأ “ورشة الامل”,  للشاعر الكبير قاسم حداد ابن المحرق الذي صاع صيته عربيا و عالميا, و الذي يحكي فيه حياته بين ازقة المحرق, و كيف كانت ابواب بيوتها المتراصة دائما مفتوحة, و افرادها يتنقلون من دار الى آخر دون تكفل, و كأن البيوت المتفرقة جسما واحدا مترابطا. فهذا قاسم و رفاقه  يتنقلون من بيت الى آخر كمأوى ليباتوا فيها ليلا حين كانت الاجهزة الامنية تطاردهم,  فاهل الديار المتفرقة كالعائلة الواحدة تساند ابناء منطقتهم في اشد محنهم.

هذه التكوينة الاجتماعية و افرازاتها لا تتكرر في الضواحي الجديدة (suburbs) المبنية من تخطيط مركزي موحد, فالجدران العالية تفصل كل بيت عن جاره, و لا يمكنك التنقل بين ضواحيها الا راكبا السيارة. فلا تجد نفس الفة و لحمة المدن و القرى التاريخية, و التي نمت بشكل عضوي و تدريجي بناء على معطياتها و تركيبتها الاجتماعية. و عادة ما يختار ساكني الضواحي الجديدة ان يعيشوا في مناطق تلاءم طبقتهم و مركزهم الاجتماعي, فالغني يحاول الحصول على بيت في منطقة ثرية, و الفقير يجبر على العيش مع رفاقة من الطبقة الكادحة. هذا على عكس ما يحصل في المدن التاريخية, حيث عاش الحاكم و النوخذة و “البناي” جنبا الى جنب. و هذا الكلام ليس انتقاصا في الضواحي الجديدة المبنية من تخطيط هيكلي مركزي, فلتلك المناطق ايجابيات لا تتواجد في القرى و المدن القديمة, و لكن بيت القصيد هو ان المدينة القديمة لها ايجابيتها و تستحق المحافظة عليها ايضا.

باندثار هذه المدن التاريخية, تفقد البحرين مصدرا و منبعا اساسيا لشخصياتها و افكارها و انتاجاتها. فبدون تركيبة المدينة لم يكن لهؤلاء الاشخاص و انجازاتهم ان تتبلور بالطريقة التي تشكلت فيها, و باختفائها تفقد البحرين ما ساهم في صهر شعبها و تشكيل تطلعاتهم و هويتهم الوطنية. فمع كل بيت يهدم تخسر البحرين موطنا لقائد لم يولد بعد, و مع كل فريج يهجر يموت معه مصنعا لمستقبل البحرين. فتشييد (سوبر مول) جديد في مكان هذه الازقة قد يثري حفنة صغيرة من الافراد, و لكن هل سيساهم في انتاج السواعد و الالفة و الانجازات التي كانت تزخر بها هذه الفرجان؟

اعادة احياء المدن القديمة

ناقشنا على مدى الاسابيع الماضية ما يحصل للمدن التاريخية في دول مجلس التعاون, مستعملين المحرق كمثال للتغيرات الهائلة التي تمر فيها هذه المدن, حتى باتت مهددة بخطر الزوال كليا, و التحول الى مجموعة من الشقق و المجمعات التي تسكنها مجموعة من البشر “الترانزيت”. بل ان المدينة باكملها اصبح يهددها الخطر الحقيقي بان تصبح “ترانزيت”. فكل ما فيها, من اناس و بيوت و احياء و حتى بحر, بامكانه ان يتبدل بين ليلة و ضحاها, فتارة تصبح مجمعات, و تارة معسكر عمال, و تارة ناطحات سحاب. كل هذا بناء على “المعطيات الاقتصادية” و اهواء “البيزة” و متخذي القرار.

كما لمحنا في الاسبوع الماضي,  فبزوال هذه المدن نحن لا نخسر مباني اثرية و تقاليد تاريخية فحسب, بل نحن نفرط في منبع متجدد للطاقات و الشخصيات و الافكار التي تشكل ثقافة و مستقبل و آفاق المجتمع. فبفقدان هذه المدن تختفي البيئة التي تنتج شاعرا جديدا, او فنانا مبتكرا قادما, او مناضلا صلبا في المستقبل. الملخص هو اننا نفقد ما يشكل  جزءا كبيرا من ثقافقتنا و هويتنا و قدرتهما على التجديد و الانماء, فنحن لا نفقد ماضينا فحسب, بل نفقد العوامل الجذرية التي تشكل مستقبلنا و تطلعاتنا و مصدر العطاء المتواصل.

اظن انه من المهم جدا انقاذ هذه المدن  قبل ان تلتهما “مرحلة التخمة” كليا,  فيختفي اثرها ليأخذ مكانها ما اسمته احدى قارئات هذه المقالات بال”لا امكنة”, تلك الاماكن المفرغة من اي هوية او قيمة تاريخية او ثقافية او اجتماعية كال”مولات” و “السوبرماركيتات”, و التي بدورها تحول الفرد الى عابر سبيل غير منتمي الى محيطة الاجتماعي او المدني.

المسألة ليست سهلة, و لكنها ايضا ليست مستحيلة, فهناك الكثير من الامثلة لمدن مرت “باضمحلال حضري” (urban decay), لكنه تم تجديدها و انقاذها حتى اصبحت محركا رئيسيا لاقتصاد و ثقافة و طاقات المنطقة. و لنا ان ننظر الى ما تم فعله في “ليفربول” و “مانشستر” في انجلترا او “براغ” في التشيك او حتى هافانا في كوبا. و الاخيرة تعطي مثالا حيا لمدينة تاريخية اصبحت محركا اساسيا لاقتصاد الدولة (السياحة هي القطاع الاكبر في الاقتصاد الكوبي, و هافانا هي المركز الرئيسي للسياحة). كل هذا دون ان تفقد المدينة هويتها, فهي تستمر في كونها منبعا لطاقات و مهارات الدولة ( فاغلب فناني و مثقفي و مفركري كوبا يتواجدون في المدينة هافانا). و بالامكان التعلم من خبرات و تجارب هذه المدن  لاعادة احياء مدننا التي نعتز بها.

ليس من العسير تطوير بعض القوانين التي تساهم في انقاذ هذه المدن, فعلى سبيل المثال لا الحصر بامكاننا:

•    وضع القوانين التي تنظم عملية سير السيارات و مواقفها, بما يحفظ الراحة للاهالي و يوازن مع الاحتايجات التجارية.

•    تقنين عملية فتح الدكاكين و حصرها الى اماكن معينة, حتى لا يتم التغلغل الى الاحياء السكنية التي ما انفكت تنخر فيها المحلات التجارية.

•    تقنين عملية المحافظة  على البيوت و حظر العمارات المتزايدة التي تزيد الاكتظاظ و تمحو الطابع المعماري الخاص بالمدن التاريخية

و بامكاننا ان ننهل من تجارب المدن الاخرى لاستخراج القوانين المفيدة منها. لكن ما هو اهم من القوانين هو تطبيقها, فبعض هذه القوانين موجودة حاليا و لكنا لا تطبق بشكل منظم. و لا يحتاج المرء الا ان ينظر الى اعداد الدكاكين و العمارات و السيارات المتزايدة في هذه المدن حتى تتبين له حدة المشكلة.

و لكن حتى تطبيق هذه القوانين لن يحل المشكلة, بل ما تحتاجه هذه المدن بشكل ملح هو خطة مرسومة و مفعلة لاعادة احياءها. فالمدن في عصرنا هذا وصلت الى مرحلة عدم القدرة على انقاذ نفسها منفردة, و اصبحت هناك حاجة ماسة الى دفعة قوية و مرسومة  لاعادة احيائها. و من الضروري ان يكون المجتمع الاهلي قائدا لهذه الخطة, و خاصة ساكني المنطقة المعنية بها. فالطابع السائد عندنا هو ان ترسم الخطط “من فوق” او بأيدي اجنبية و تطبق حسب اهواء متخذي القرار, و هذا خطأ كبير.

فمتخذ القرار في اغلب الاحيان لن يكون من ساكني المنطقة, و لن يعرف حيثيات و متطلبات الاهالي, و كما يقول المثل ف”اهل مكة ادرى بشعابها”. لذلك فمن المهم جدا ان يمسك المجتمع الاهلي بزمام الامور, حتى يحس بأن المتغيرات و القرارت تأتي منه و  انه هو من يشكل محيطه. فالطابع السائد حاليا من خطط مركزية مستوردة يشعر الاهالي بانهم عاجزون و مهمشون بينما مجتمعهم و محيطهم يتغير من حولهم.

و من المهم جدا في اي خطة مرسومة ان يتم الحفاظ على الحياة الاجتماعية في المدينة بما يضمن استمرار سكن الاهالي لها. فتشييد حفنة من المتاحف و المراكز الثقافية في الاحياء القديمة امر مهم و يجب تقدير من يقوم بهذا العمل, و لكن الهدف ليس هز تحويل المحرق و غيرها الى مدن اشباح تتغلغلها بعض المتاحف الموجهة الى الطبقة المقتدرة, ليسترجع البعض حنين الماضي. بل المقصد هو جعلها مدينة حية تتواصل في احتضان الاجيال المتلاحقة و في توفير البيئة المعيشية التي تستمر في انتاج سواعد هذا الوطن. و هذا يتطلب توفير البنية التحتية اللازمة و مرافق المعيشة من حدائق و “براحات” و منشئات التي توقف الهجرة المتزايدة للاهالي و تعيد استقطابهم للعيش في المدن القديمة , و بهذا تعود المدينة لتكون منطقة العيش المفضلة للاهالي.

و قد يبدأ هذا الامر باعادة تأهيل حي واحد, و هذا بدوره سيساهم في اعادة احياء المدينة بشكل مستمر.  فالعملية بامكانها ان تنمو بشكل عضوي و تلقائي ان اعطت دفعة مناسبة في البداية. فاعادة تأهيل حي واحد سيقود آخرين للعودة الى الاحياء المجاورة لهذه الحي بشكل طبيعي و متراكم, و بهذا سيتم اعادة  تأهيل احياء اخرى بطريقة سلسة, حتى نصل الى مرحلة تستطيع فيها المدينة اعادة تأهيل نفسها بنفسها. و لكن المهم هو اعطاء هذه الدفعة الاولي التي تبدأ سلسلة المتغيرات.  فتكاليف اعادة احياء حي واحد ليست بالباهظة, فهي لا تقارن حتى بجزء من تكلفة احدى هذه المجمعات “المولات” الجديدة, و لكن اعادة تأهيل حي واحد بامكانه ان يشعل الحركة التي تعيد احياء المدينة ككل.

وضع خطة كهذه امر صعب لكنه ليس بمستحيل, و سن و تطبيق القوانين المرافقة لها امر صعب و لكنه ايضا ليس بمستحيل, و لكن اعسر ما في الامر هو تغيير النظرة الى ان ليس كل نمو مطرد هو تنمية, فالنمو في “مرحلة التخمة” يأتي على حساب ما هو عزيز علينا في هذا البلد, و التحدي سيكون في محاربة المصالح الضيقة و الفئوية التي يصب في مصلحتها هذا النمو المتضخم. فمن بامكانه التصدي لاصحاب العمارات و الدكاكين ليقول لهم ان افعالهم تجر مستقبل المدينة الى خطر, و من سيوقف اصحاب المجمعات و يواجههم بان مصالحهم هذه تدمر كنز من كنوز الدولة؟ هنا يكمن المحك, فاين هو “السوبرمان” او “السوبر وومان” الذي بامكانه مجابهة هذه المصالح و تطبيق الافعال التي ستنقذ المحرق و غيرها من التحولات الذي ما انفكت تنهش في جسدها؟ الوضع يتطلب تكاتف اهلي و رسمي قوي و سريع, فالامور وصلت الى مرحلة حرجة و فرصة الانقاذ ما انفكت تتضاءل.

المحرق و المنامة و باقي البحرين تنادي, فهل من مجيب؟

المصدر: صحيفة أسواق البحرينية