الكورونا واقتصاد دول الخليج العربية (8)

سلسلة الكورونا واقتصاد دول الخليج العربية (8)

الهيمنة الغربية ومجلس التعاون

 

نختتم هذه السلسلة من المقالات بالتذكير ان دول مجلس التعاون هي جزء من هذا العالم المترابط، وان التعاطي مع اقتصادها بشكل منفصل عن العلاقات الاجتماعية الممتدة على مدى هذا الكوكب هو عبث لا معنى له. فدول الخليج مرتبطة بشكل عضوي بالمعطيات خارج حدودها، ولا يمكن فهم نمط اقتصادها دون هذا الارتباط، اكان عند الحديث عن سوق عملها الذي يعتمد بشكل جذري على العمالة المهاجرة، او سوق النفط العالمي الذي تحصّل إيراداتها منه، او المشاريع والشركات الدولية التي تستثمر دول الخليج ومواطنيها فائض أموالهم فيها.

الا انه بودي التذكير والتركيز في هذا المقال على ما قد تكون اهم علاقة خارجية شكلت دول مجلس التعاون من الناحية الاقتصادية والأمنية على مدى القرن الماضي، وأعني هنا العلاقة غير المتكافئة والاقرب الى الاعتمادية، بين دول الخليج والقوى الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة الامريكية. وهذا الواقع هو امتداد لعلاقة تبعية تمتد على الأقل منذ فرض “السلم البريطاني” pax brittanicaعلى المنطقة في القرن التاسع عشر، وتواصل نفوذ الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس لأكثر من مائة عام. الا انه ومنذ انتهاء الحرب العالمية ثانية، وعلى الرغم من تواصل الحضور البريطاني بشكل مخفف، أصبحت القوة العسكرية المهيمنة الآن هي الأمريكية، والتي ثبتت نفسها كعرابة الهيمنة الغربية في المنطقة مع انسحاب البريطانيين من شرق السويس عام 1967. وبناء على هذه المعطيات، توسعت القواعد والقوات الغربية المتواجدة في دول مجلس التعاون على مر القرن العشرين، حتى شملت جميع دولها بلا استثناء. وقد مثل غزو العراق للكويت عام 1990 نقطة مفصلية رسخت هذه الهيمنة بما لا يترك مجالاً للشك، إذ دخلت القوات الأمريكية بشكل مكثف حتى في الدول التي لم تكن تتواجد فيها سابقاً كالكويت وقطر، حيث تواجد مقر القيادة المركزية للولايات المتحدة في قاعدة العديد منذ عام 2002. وببداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، انتشر حوالي 30 ألف عسكري غربي في قواعد بحرية وبرية وجوية في دول مجلس التعاون. هذا بالإضافة إلى تواجد حاملتي طائرات أمريكية في بحار الخليج، قوام كل منها حوالي عشرة آلاف جندي. وبذلك أصبحت مياه الخليج أكثر المياه عسكرة في العالم، وأصبح التواجد العسكري الغربي في الخليج يضاهي تواجد الجيش الأمريكي في ألمانيا (حوالي 50 ألف)  ويتعدى تواجده في اليابان (حوالي 35 ألف). وهكذا، دخلت دول الخليج في صلب المساحات والخطوط والحسابات العسكرية للدول الغربية، خصوصاً الأمريكية منها، عبر تشييد واستضافة هذه القواعد الجوية والبحرية والبرية التي ثبتت الهيمنة الغربية وعززت الاتكالية الأمنية عليها في المنطقة.

وتحت هذه المظلة الأمنية الغربية، بُنيت علاقات دول مجلس التعاون الاقتصادية الدولية. ففي بداية عهد التصدير، كانت شركات النفط العالمية توجه انتاج الخليج اساساً نحو إعادة اعمار أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وفرض الهيمنة الامريكية في خضم الحرب الباردة. ومنذ السبعينات وعصر تأميم النفط، أصبحت دول الخليج المزود الرئيسي للعالم أجمع بما فيه الولايات المتحدة، حيث لعبت دور المرجح الذي يعادل سوق النفط العالمي ويحافظ على استقراره ويعمل على توفير اهم سلعة في العالم بشكل مضمون ومستمر. وعلى الرغم من ان الوجهات التي يصدر اليها نفط الخليج قد تغيرت على مر الزمن، من أوروبا الى أمريكا الى آسيا اليوم، إلا أن دور دول الخليج الأساسي في السوق النفطي بقي ضمان استقرار سوق النفط العالمي، في مقابل حصولها على عوائد مجزية نظير النفط الذي تصدره. كل ذلك يتم تحت الهيمنة الامريكية.

الا انه قد برزت خلال السنوات القليلة الفائتة بوادر توحي الى اضطراب هذه العلاقة وظهور الثغرات فيها. وكما هي العادة فان زمام هذا التغير ليس في يد دول المجلس، بل هو مرتهن لما يقرره متخذو القرار في الغرب حول فائدة وأهمية استمرار هذه العلاقة بالنسبة لهم. وعاجلاً ام آجلاً، ما إن يصل متخذي القرار في الغرب الى مرحلة يرون فيها ان هذه العلاقة قد أصبحت تشكل عالة أكثر من كونها فائدة بالنسبة لهم، فلن يترددوا في اتخاذ القرارات التي يرونها متناسبة مع مصلحتهم. فهذه العلاقة لا تحتكم في طبيعتها لمشتركات أيديولوجية او جغرافية او اسرية، كما قد يكون الحال في علاقة الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني، بل هي علاقة مصلحية ونفعية بشكل جوهري. وبالإضافة الى تزايد الخطاب العنصري المتعلق بالمسلمين و”الحرب على الإرهاب” عند بعض التيارات في الغرب، مقروناً بتصاعد خطاب حقوق الانسان والديمقراطية عند تيارات اخرى، فقد طرأت ايضاً بوادر تغيرات هيكلية تشير الى تصدع العلاقة بين القوى الغربية ودول الخليج. وقد يكون اكثرها مصيرية هو إمكانية انخفاض أهمية ودور نفط الخليج الاستراتيجي من قممه التاريخية، خصوصاً مع تصاعد النقاش حول إمكانية الوصول الى ذروة الطلب على النفط كما ناقشنا في المقالات السابقة، بالإضافة الى كارثة التغير المناخي التي جعلت البعض ينظر الى استخراج النفط في الخليج كأحد المشاكل الوجودية التي تهدد سلامة العالم. وقد يكون أكبر متغير حالي على أرض الواقع هو تضاعف انتاج النفط في الولايات المتحدة في خضم ثورة النفط الصخري، في مقابل انخفاض حصة اوبك من سوق النفط العالمي. وقد انعكس ذلك سياسيا في توسعة الخلافات والتهديدات الموجهة من اقطاب المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة الى دول الخليج. وعلى الرغم من أن علاقة الهيمنة لا زالت مستمرة في المدى القريب والمتوسط، إلا أن تزايد حدة هذه الخلافات قد ينذر بأن العلاقة ليست أبدية، وان اتخاذ القرار فيها هو خارج سيطرة دول مجلس التعاون بشكل كبير.

ومن هذا المنطلق أصبح ملحاً على دول مجلس التعاون أخذ المبادرة بمراجعة طبيعة هذه العلاقة والأسس التي بنيت عليها، بدلاً من عقد الأمل على عدم تغير أهواء الدول الغربية ضدها. فقد بانت كقضية مصيرية ان تتجه دول الخليج نحو ضمان استقلالها في توفير السيادة والحماية الأمنية لنفسها بنفسها، بدلاً من حالة التبعية التي أدت الى التسارع الحالي الذي نشهده في دول المنطقة لاستقطاب قوى عسكرية من أكثر من لاعب دولي إلى أراضيها. فبدلاً من زيادة التكاتف والاستقلالية العسكرية في دول المنطقة، اتجهت دوله لزيادة عدد القوى الأجنبية الحاضرة عسكرياً في أراضيها، وفي كثير من الأحيان خوفاً من دول الخليج الأخرى.

ولا إمكانية لعمل ذلك من دون تكثيف خطوات التكامل بين دول الخليج. فتشابه الحال بين دول المجلس من حيث الاعتمادية على النفط في صادراتها وحياتها، وعلى العمالة الوافدة في سوق العمل، وعلى أنظمة الحكم الملكية المطلقة، وعلى الهيمنة الغربية، وفي صغر حجمها سكانياً (فيما عدى السعودية نسبياً)، بالإضافة إلى الروابط الأسرية والثقافية والاقتصادية التاريخية، يجعل أهمية التنسيق فيما بين هذه الدول أمراً ملحاً. إذ أنه من المستحيل أن تصل دول الخليج إلى الأهداف المرجوة التي بيناها على مدى هذه المقالات على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني أن لم يكن هناك تكامل وتكاتف فيما بينها. ففي الوضع الحالي، وبحكم أحجامها السكانية الصغيرة لا يمكن الاستفادة من اقتصاديات زيادة الحجم (economies of scale)، فليس بإمكان كل دولة خليجية على حدة أن تباشر في برامج إنتاج مصانع المياه والطاقة ذاتياً، وبذلك يصبح من المحتم عليها أن تتعاون في هذا المجال إذا أرادت أن يكون لأي فرصة نصيب من النجاح. بل إن عدم التكامل يزيد من مخاطر الخلافات فيما بين هذه الدول مع هيمنة الأطراف الأقوى في المجلس على الأضعف، بحيث ما انفكت الخلافات السياسية المبنية أساساً على خلافات شخصية بين متخذي القرار تسيطر على المشهد، حتى وصلت إلى مرحلة العراك في صيف عام 2017، مع تفجر أزمة الخليج وخلافاتها إلى العلن.

وهذا سيتطلب إعادة النظر في مجلس التعاون كمنظومة إقليمية، والتي كانت إنجازاتها متواضعة عموماً في توثيق العلاقات بين هذه الدول على المستوى الاقتصادي والسياسي، باستثناء نجاحها الرئيسي في تسهيل تشابك رأس المال على مدى دول الخليج، حتى تشكلت عدة شركات ومشاريع وبنوك تجمع ما بين رؤوس الأموال من الدول المختلفة. هذا بالإضافة إلى بعض الإنجازات الثانوية الأخرى من الناحية الاقتصادية، كتوحيد الجمارك والسماح (نظرياً على الأقل) لمواطني دول المجلس بالتنقل بين دوله للعمل دون تأشيرة. وكما جرت العادة في اقتصاديات دول المجلس، فقد كان رأس المال هو الرابح الأكبر الذي استطاع أن يبسط امتداده وتشابكه على مدى دول الخليج. وبالمقابل كان التشابك والتداخل فيما يخص السكان أو التبادل التجاري ضعيفاً نسبياً، بل وتم ضربه في خضم أزمة 2017 بين دول المجلس، حيث تم منع تنقل البشر والبضائع فيما بينها. وفي ذات الوقت، لنا أن نلاحظ أن ما لم يتم مسه بشكل جذري هو إمكانية انتقال رأس المال ما بين الدول. إذن، فإن مجلس التعاون، وعلى الرغم من المقومات الهيكلية التي من المفترض أن تجعل التكامل فيما بين أعضائه سهلاً نسبياً، لم ينجح في ذلك من الناحية السياسية والاقتصادية (فيما عدى رأس المال)، وقد يكون الجانب الأمني في مطاردة وتتبع الناشطين والحقوقيين داخل دول المجلس هو النجاح الأساسي غير الاقتصادي لهذا المجلس.

وعلى الرغم من هذا الفشل، يبقى التكامل فيما بين أقطار دول المجلس قضية ملحة نظراً لوحدة وارتباط المصير فيما بين شعوب المنطقة جميعاً. ومن تجربتي كشخص قضى فترات ممتدة من الزمن في غالبية دول مجلس التعاون، فإن قضية التكامل بين أقطار المجلس لا زالت تشكل مطلباً شعبياً عند مواطني هذا الدول، وهذا يعزز من أهمية تفعيل المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار بين الشعوب، لأنه لا يمكن التعويل على القرارات الفردية والرؤى الشخصية فقط في هذا الأمر، كما بدى جلياً مع تفجر أزمة عام 2017، وسط ذهول وعدم فهم الشعوب لما يحصل في ازمة لم فرضت عليهم ولم يكن لهم قرار في احداثها، هذا مع غياب أي أثر لمجلس التعاون كمؤسسة جامعة خلال هذه الأزمة.

ولا يعني التكامل فيما بين أعضاء المجلس أن تطغى دولة على أخرى، أو أن تصبح هناك مركزية موحدة تتحكم بكل السياسات في كل دوله، فبقاء كل دولة من دول المجلس مستقلة في سياساتها التي تخص الشأن المحلي مع بعض التنسيق، كسياسة التعليم والصحة والبلدية، هو باعتقادي أمر حميد من ناحية التفويض والابتعاد عن مشكلات المركزية المفرطة، خصوصاً في ظل اختلاف المعطيات والتراكم التاريخي من دولة إلى أخرى. إلا أن الحاجة لأن يكون هناك قرار موحد من الناحية الأمنية، والعسكرية، والنفطية، والقرارات السياسية الكبرى، تحت آلية اتخاذ قرار ممأسسة وواضحة وموحدة، هو أمر ملح. ويبقى الشرط الأهم أن يحدث ذلك في ظل سيادة مبدأ المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار في كل أقطار المجلس، بدلاً من سيادة العقلية الأمنية في الوضع الحالي.

وفي نفس خانة العلاقات الإقليمية، تبرز أهمية التواصل والتعاطي مع العالم العربي بشكل ملح جداً. فبالإضافة إلى أن العالم العربي يمثل المحيط الجغرافي والثقافي والأسري الأساسي لدول الخليج العربية، تبرز أهمية تعزيز التكامل فيما بين أقطاره من ناحية الاستدامة والاستمرارية الاقتصادية أيضاً. فحالة دول الخليج استثنائية في كونها ضمن دول العالم الأكثر ثراء، ما مكنها من امتلاك استثمارات خارجية (خاصة وعامة) ضخمة نسبياً، في الوقت الذي تتواجد فيه ضمن محيط عربي ينتشر في بقيته الفقر وشح رأس المال والبطالة. ونتيجة لذلك بدأ الوضع الاقتصادي في كثير من هذه الدول العربية الأخرى يعتمد بشكل كبير على الاستثمارات القادمة من الخليج، والشروط والمتطلبات والتعاملات التي تنسجها هذه العلاقات المتداخلة على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ما جعل دول الخليج ورأس المال القادم منها لاعباً رئيسياً في مصير الكثير من الدول العربية. وهذا التناقض الفاقع في الحالة الاقتصادية بين أقلية ثرية جداً من ملاك رأس المال وأكثرية عربية لا تملك الكثير، قد تكون لها تبعات على الخليج وبقية العالم العربي، كما رأينا في أحداث ما سمي بالربيع العربي. وقد وصلت دول أوروبا إلى هذا الاستنتاج بعد الحرب العالمية الثانية، فبدلاً من الدخول في المزيد من الصراعات بين بعضها البعض، توجهت نحو التكامل والتداخل الاقتصادي والسياسي وصولاً للاتحاد الأوربي في صورته الحالية. ولذلك أظن أن من الضروري من الناحية الأخلاقية والثقافية وحتى الأمنية أن يتم العمل على زيادة الترابط والتداخل فيما بين أقطار العالم العربي، خصوصاً من ناحية رفع مستوى حرية تنقل الناس والبضائع على امتداد حدوده وزيادة حقوق العمال والبشر.

من المتوقع أن من قرأ القائمة السابقة من الإصلاحات التي اقترحتها سيعتبر تطبيقها في الخليج حالياً أقرب إلى الأحلام الوردية التي لا تمت للواقع بصلة. فهل الغرب سيقبل طواعية بإعادة ترتيب علاقته من التبعية إلى علاقة الند بالند؟ وهل سيقبل متخذو القرار أن يشارك بقية الشعب في الحكم دون أي صدام؟ وهل سيرضى متخذو القرار والشركات والناس بأن يتم تخفيض الريع النفطي الذي يستلمونه تدريجياً، وأن يتم التوجه نحو الضرائب لتمويل الإيرادات؟ وهل سيقبل الكثير من المواطنين بالعمل والإنتاجية مقابل الراتب، بعد أن أمضى الكثير من حياتهم معتمدين على عطايا وتوزيعات الدولة؟ وهل سيرضخ رأس المال الخاص لزيادة حقوق العمالة وخصوصاً الوافدة منها دون حراك مضاد؟ وهل المواطنين سيقبلون بالعمل في القطاع العائلي الخاص؟ وهل سيقبل المجتمع عموماً بالانخفاض في نسب الاستهلاك والتوجه نحو نمط استهلاكي أكثر استدامة وصداقة للبيئة؟

عندما طرحت كل ما سبق وانا انهي كتابة تصدير الثروة واغتراب الانسان عام 2017، كانت الاجابة المتوقعة هي “لا” لأغلب ما سبق. والحقيقة ان الكثير مما قدم في هذه القائمة قد تم طرحه مسبقاً أكثر من مرة، وقد تكون أدل وثيقة تاريخية صدرت في هذا المجال هي تلك الوثيقة التي قام بصياغتها مجموعة من المفكرين والمختصين من كافة دول المجلس عام 1983 بناء على طلب من وزراء دول مجلس التعاون، في تعاون أهلي اعتمد في توصياته على مناقشات طويلة ومفتوحة بين المشاركين. وقد طالبت الوثيقة بالمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وتخفيض الاعتمادية على النفط وإخضاع إيراداته لمتطلبات التنمية، وتفعيل التكامل فيما بين أقطار دول مجلس التعاون، وتبقى الكثير من توصيات وأهداف تلك الوثيقة صالحة إلى يومنا هذا.

وإن كنت سُأِلتُ ذات السؤال قبل عدة أشهر لأجبت صراحة أني لست متفائلاً من مجرى الأمور، وأظن أن أكبر الاحتمالات هي أن هذه الإصلاحات والتغيرات لن تحدث طواعية وباختيار وتخطيط شعوب الخليج المسبق. ولكن يبقى البديل إن لم يتم تنفيذ هذه التحولات هو الانحسار في مستوى المعيشة لغالبية الناس، في خضم زيادة عدد البشر وتقلص الريع النفطي الذي هو المحرك الرئيسي للاقتصاد. كما أنه ليس بالمستبعد أن ينفجر ذلك في شكل أزمات متعددة، قد يصل بعضها إلى مستوى كارثي حقيقي. ولذلك، فبرأيي أن لا مفر من إجراء هذه الإصلاحات، إما طواعية، أو بسبب فرض الواقع لهذه التغييرات كرهاً. ومن الأفضل أن تتم هذه الإصلاحات بالتدريج وطواعية وبعلم واختيار البشر، بدلاً من أن يفرضها الدهر قسراً.  وقد تكون الازمات التي عرتها جائحة الكورونا، والتغيرات التي فرضتها قسراً، بوابة تعطي بصيصاً من الأمل لإعادة طرح هذه المواضيع ومجابهتها. وبرأيي أن أي إصلاح اقتصادي جاد في الخليج يجب أن يتطرق إلى إصلاح لب الخلل الإنتاجي، المتمثل في إعادة توجيه إنتاج النفط واستعمال ايراداته، وإصلاح شركات القطاع الخاص، وإصلاح سوق العمل، والتعامل مع البيئة بشكل أكثر وعياً، بحيث يتم التوجه نحو رفع الإنتاجية والحقوق العمالية والتأكد من مبدأ استدامة واستمرارية وإعادة تجديد هذه العوامل على النحو الذي بيناه. وأن يتم ذلك في إطار التكامل بين دول المجلس ومعالجة الهيمنة والاتكالية على القوى الغربية في المنطقة. وما لم يتم التطرق إلى هذا المربع من أوجه الخلل الإنتاجية الهيكلية، فإن الاقتصاد سيواصل في مساره الحالي نحو طريق مسدود.

وبرأيي أن التطرق الجاد إلى هذه المشاكل بشكل منهجي وشامل سيحتاج على وجه السرعة لصفقة أو “اتفاقية كبرى” بين كل أطراف المجتمع ( grand bargain)، يتم مناقشتها وإقرارها وتطبيقها بشكل شفاف منهجي يشمل الجميع، بحيث تعيد تعريف دور وحقوق وواجبات كل طرف في المجتمع: الجهات الرسمية ومتخذي القرار، المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، والمواطنين والوافدين. وهذه الاتفاقية الكبرى ستعني بالضرورة تضحيات وتغييرات على كل طرف أن يعيها ويناقشها ويتحملها، كل حسب قدرته ومكامن الخلل في جانبه، بحيث تكون المنفعة العامة هي الهدف مع حفظ الحقوق الخاصة لكل طرف. إن الخطوط العامة التي رسمناها على مدى المقالات السابقة كفيلة بتوفير أرضية جيدة للنقاش، تمهد السبيل على هذا الطريق. وكما تبين الكثير من حملات التعاضد الوطني التي برزت خلال ازمة الكورونا، فإن التوافق والعمل على المستوى الجماعي الوطني ممكن جداً، ما ان توفرت الأرضية الجامعة والاقرار بوحدة المصير.

وحتى تنجح هذه الصفقة الكبرى، فإن أساس التغيير الأكبر والأول يجب أن يأتي من أعلى الهرم. فمن غير المعقول عملياً مطالبة المواطنين، وحتى المستثمرين، بتغيير طبائعهم وعاداتهم، التي كثيراً ما تكون نتاج سياسات رسمية فرضت عليهم أصلاً فيما يصر أصحاب القرار على مواصلة إحكام قبضتهم على أغلب مفاصل السلطة والثروة في المجتمع. ويبقى المفتاح لكل ذلك هو الإصلاح والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار.

فهل نتعظ من جائحة الكورونا ونبدأ خطواتنا نحو درب الوحدة والديمقراطية والتنمية المستدامة؟


تحميل الملف بصيغة PDF