الكورونا واقتصاد دول الخليج العربية (6)

سلسلة الكورونا واقتصاد دول الخليج العربية (6)

أساس الخلل الاقتصادي والاستدامة

 

إذا أردنا التطرق الى صلب الخلل الإنتاجي في اقتصاد دول الخليج العربية وقدرته على الاستدامة، فما من مفر من التركيز على صناعة استخراج النفط وكيفية التعامل مع ايراداتها. فلا زال القطاع النفطي وايراداته هو المحرك الرئيسي للاقتصاد، اما بقية الأطراف الاقتصادية فهي مكملات. وهذا ما سنركز عليه في هذا المقال.

ان الخلل الإنتاجي المتعلق بصناعة استخراج النفط والتعامل مع إيراداتها مركب. فمن ناحية الاستخراج، من المعروف ان النفط في الخليج متواجد بكثرة وبتكلفة انتاج منخفضة، وهذا أساساً نتاج الخصائص الطبيعية الاستثنائية للمنطقة بدلاً من أي تقدم تكنولوجي بالمقارنة مع بقية المنتجين المنافسين. وبداية، فقد تم تخطيط الإنتاج في هذا القطاع بناء على اعتبارات شركات النفط العالمية وما يتوافق مع مصالحها الربحية الخاصة، والتي رسمت خطط إنتاجها بناء على احتياجات واعتبارات السوق العالمي بدلاً من معطيات قوى الإنتاج في الاقتصاد المحلي في الخليج. وتواصل هذا التوجه نحو تلبية اعتبارات السوق العالمي حتى في عصر تأميم شركات النفط وتملكها كلياً من قبل الدولة. وقد أدى الريع العالي الناتج من قلة تكلفة استخراج النفط وتواجده بكثرة في المنطقة نظراً لخصائصها الجيولوجية، بالإضافة إلى تصديره بناء على احتياجات السوق العالمي بدلاً من اعتبارات قوى الإنتاج في الاقتصادي المحلي، أدى إلى تدفق إيرادات هائلة على دول الخليج بطريقة لا تعكس إنتاجية قوة العمل فيها. وقد سبب ذلك خللاً لأنه بات على دول الخليج التعامل مع إيرادات هائلة متقلبة ليست مبنية على مستوى تطور القاعدة الإنتاجية وقوة العمل فيها. وبذلك أصبحت هذه الإيرادات التي يتم تحديدها في السوق العالمي هي العامل الرئيسي الذي يسيّر ويهيمن على بقية قوى الإنتاج في المجتمع بدلاً من العكس.

ولكي نأخذ فكرة عن حجم تلك الإيرادات وتباينها مع قوى المجتمع الإنتاجية، يمكننا مقارنة حجم الاقتصاد قبل النفط وبعده. ولنا أن نأخذ اقتصاد ساحل الخليج قبل النفط للمقارنة، وقد اعتمد أساساً وبشكل كبير على صناعة اللؤلؤ، التي كانت فعلياً الصناعة المسؤولة عن توظيف غالبية المجتمع، وتعتبر أساس ما ينتجه مجتمع الخليج ومصدر دخله من الخارج. وكانت السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى هي الفترة الأكثر ازدهاراً لصناعة الغوص، حين وصل متوسط الدخل السنوي لساحل الخليج من اللؤلؤ في الفترة بين 1911 و1914 إلى حوالي 2 مليون جنيه سنوياً. وكانت هذه سنوات استثنائية، إذ ما لبثت الإيرادات وأن هبطت إلى ما دون الخمس مئة ألف جنية في نهاية عشرينات القرن الماضي، نظراً للكساد العالمي (Great Depression) وتطور زراعة اللؤلؤ الصناعي في اليابان. ولم تتعاف من بعدها صناعة اللؤلؤ في الخليج.

في المقابل، إذا نظرنا للكويت فقط، فقد بلغ دخلها من النفط حوالي 3.2 مليون جنيه في 1948، وما لبث أن ارتفع إلى 60 مليون جنيه في 1953، ثم إلى أكثر من 100 مليون جنيه في 1955. إذن، وفي غضون بضع سنين، بلغت قيمة إنتاج دولة الكويت فقط من النفط ما يعادل خمسين ضعفاً من أقصى قيمة مالية لمجمل إنتاج اللؤلؤ في الخليج ككل في عصر ما قبل النفط. وما لبثت كل دول الخليج أن وصلت لمستويات مقاربة من الدخل النفطي، وإن بدرجات متفاوتة حسب كمية النفط المنتجة في كل منها. إلا أن خاصية واحدة جمعت كل هذه الدول، وهي تحصيلها لكميات هائلة من النقد من بيع النفط، تعدت عشرات المرات قيمة ما كان ينتجه المجتمع سابقاً. واجمالاً، جنت دول المجلس مجتمعة من النفط أكثر من 9.60 تريليون دولار امريكي على اقل تقدير، منذ تصدير اول برميل عام 1932 حتى عام 2015 حسب الأسعار الثابتة لهذه السنة.

ولعله من الإجحاف الإفراط في انتقاد الوضع في دول الخليج في مرحلة ما قبل 1970، خصوصاً وأن غالبية هذه الدول لم تحظ بالاستقلال بعد، ولم تتمتع بالبيروقراطية وقوة العمل المتطورة للتعامل مع صناعة النفط واتفاقياتها مع شركات النفط العالمية. إلا أن الوضع قد تغير مع حلول عقد السبعينات، فقد مر ما يزيد على ربع قرن من إنتاج النفط في كل من البحرين والكويت والسعودية وقطر، وكانت دول الخليج قد بدأت في التحكم في إنتاجها من النفط. ولذلك كان بالإمكان تطوير رؤية أكثر نضجاً حول كمية النفط المنتجة، والتعامل مع إيراداته، بحيث تأخذ في الحسبان حجم وقدرات قوى الإنتاج في الاقتصاد المحلي واحتياجاتها من إيرادات الصادرات، بدلاً من التركيز فقط على ايفاء متطلبات سوق النفط العالمية، إلا أن ذلك لم يتبلور على أرض الواقع.

ومما يفاقم هذا الخلل الإنتاجي من ناحية عدم الاستدامة، هو طريقة التعاطي مع النفط كصناعة، فعلى الرغم من مرور أكثر من ثمانين سنة من إنتاج النفط، إلا أن دول الخليج ما زالت غير قادرة على إنتاج وتصنيع الآلات التي تحتاجها لاستمرارية وإعادة إنتاج هذه الصناعة ذاتياً، بما فيها معدات حفر الحقول ومصانع التقطير والتكرير إلخ، إذ إنها تعتمد بشكل شبه كلي على الشركات العالمية الأجنبية لتزويدها بهذه المعدات وبناء المصانع. وبالتالي فإنه حتى في أهم قطاع إنتاجي لدول الخليج، لا تزال هذه الدول غير قادرة على ضمان إعادة إنتاج هذا القطاع بشكل دائم ومستمر بشكل ذاتي. ولنا أن نقارن ذلك مع النرويج، التي أصبحت من الدول الرائدة في مجال تصنيع معدات وآلات قطاع النفط، حتى وصلت إلى مرحلة تصديرها.

وهذا يأخذنا الى الخلل الإنتاجي المرتبط بكيفية التعامل مع إيرادات النفط، والذي يتطلب البحث في كيف تم التعاطي على ارض الواقع مع هذه الثروة، والذي حاولت تفصيله في كتاب تصدير الثروة واغتراب الانسان. واجمالاً، يمكن تلخيص الطريقة التي تم فيها إنفاق العوائد النفطية كالتالي:

1. بدايةً، فقد أفردت كمية لا يستهان بها من إيرادات النفط كمخصصات للعائلة الحاكمة، ولا يُعلم نسبة أو كمية هذه المخصصات حالياً، لكنها قدرت بحوالي خمس الى ثلث إيرادات النفط في فترات تاريخية، وقد وصلت في بعض الأحيان الى أكثر من النصف كالحال في قطر في خمسينيات القرن الماضي. وهذه ظاهرة فريدة من نوعها في العالم، وتدل على الدور الخاص والمحوري الذي تضطلع به العوائل الحاكمة في دول الخليج.

2. تعتبر معدلات الصرف على الخدمات الاجتماعية ايضاً عالية نسبياً. فعلى الرغم من أن الكثير قد يرى أنها لا ترتقي إلى المستوى المتوقع، خاصة من ناحية الجودة، فإن عدم الاعتراف بواقع نمو دولة الرفاه في الخليج سيكون مجانباً للحقيقة ولن يساعدنا في تفسير طبيعة اقتصاديات المنطقة، بما فيها الخدمات الصحية والتعليمية والإسكانية. وقد برزت أهمية هذه الخدمات خلال جائحة كورونا الحالية، وتعاطي مؤسسات الدولة العامة، وخصوصاً الطبية منها، مع تبعاتها. هذا وعلى الرغم من انه لاحت بوادر تشي بمحاولة دول الخليج تقليص مظاهر دولة الرفاه هذه منذ أزمة تدني أسعار النفط في مطلع عام 2015.

3. تشكل الرواتب جزءاً كبيراً جداً من مصروفات الدولة، بالإضافة إلى التحويلات الكثيفة إلى أفراد وجهات معينة (غير مخصصات العائلة الحاكمة) ، والتي تشمل دعم السلع والأسر وغيرها من مصروفات وبدلات، كدعم الكهرباء والماء ومعونات الغلاء والزواج والعائلة وغيرها.

4. واخيراً، ترتفع معدلات الصرف على الجانب العسكري والأجهزة الأمنية (الداخلية)، سواء من ناحية الكمية أو النسبة.

تركز الظواهر الاربعة السالفة على المصروفات الجارية أو المتكررة، ما يقودنا إلى الخاصية الخامسة، التي تركز على المصروفات الرأسمالية:

5. معدلات الصرف الرأسمالي على المشاريع الإنشائية أدنى نسبياً من الصرف الجاري، إذ أنها لا تتعدى حوالي الثلث من اجمالي الانفاقات في أي من دول المجلس، ويغلب عليها التذبذب الحاد عموماً، فترتفع في فترات الطفرة في أسعار النفط، ومن ثم تهبط في فترات ركود الأسعار. وهو عكس ما يحصل مع المصروفات الجارية، التي ما انفكت نسبتها تزداد على مر الزمن. وتتركز هذه المصاريف أساساً على المشاريع الإنشائية كالبنية التحتية من شوارع ومحطات كهرباء وماء وشبكات مجاري إلخ، بالإضافة إلى المشاريع الاسكانية للمواطنين. وعادة ما يكون هذا الصرف دون مردود مادي للدولة (فيما عدى محطات الكهرباء والماء نسبياً)، بل إن المصروفات المتعلقة بصيانتها (upkeep) وتشغيلها تزيد مع زيادة هذه المشاريع. وعلى الرغم من أهميتها عموماً، تسود تساؤلات كبيرة حول الفائدة المجتمعية من الكثير من المشاريع التي قد تنفذ لاعتبارات سياسية أو تجارية.

6. وقد تتمثل الخاصية الأهم في تدني نسبة إيرادات النفط المستثمرة في المشاريع والشركات العامة، أي الاستثمارات في المشاريع والشركات التجارية ذات العائد الربحي على الدولة، والهادفة إلى تكاثر رأس المال المملوك من قبلها. وعلى الرغم من ضبابية الأرقام، فإن أحجام الصناديق السيادية توحي بأن هذه المشاريع قد استحوذت على نسبة لا تتعدى الربع من إيرادات النفط، انقسمت ما بين استثمارات خارجية وداخلية، كانت هي الأخرى معرضة للتذبذب. وبذلك نرى أن المصروفات الجارية كانت هي المحدد الرئيسي لأوجه الإنفاق التي لا يتم مسها إلا نادراً، ومن ثم يذهب المتبقي من الميزانية إلى المصاريف الانشائية، وبعدها يوجه أي فائض في الإيرادات النفطية إلى الصناديق السيادية للدولة، والتي تستعملها لتمويل الاستثمارات في المشاريع العامة الربحية الرأسمالية.

إذن الاستنتاج العام هو أن الدولة، وهي الجهة التي تستلم إيرادات النفط من العالم الخارجي، لم تقم بتوجيه هذه الإيرادات لاستعمالها كرأسمال عام، بحيث يستثمر كثروة عامة في أنشطة إنتاجية مبنية على تنمية هذه الثروة. بل استعملت الغالبية الساحقة من إيرادات النفط كتوزيعات ومخصصات جارية لم ترتبط بالإنتاج، عن طريق منح لجهات خاصة في شكل رواتب ومخصصات وأوجه الدعم المتعددة، فكان أكبر توظيف لها هو كرواتب لموظفي الدولة، وموارد لبناء الأجهزة الأمنية والعسكرية، وخدمات دولة الرفاه من تعليم وصحة غيرها، بالإضافة إلى دعم السلع الاستهلاكية، والتحويلات المباشرة للعائلة الحاكمة والمواطنين، هذا بالإضافة إلى المصروفات الانشائية التي لا تدر دخلاً على الدولة (بل تزيد من المصاريف نتيجة كلف الصيانة). وقد كانت المصروفات الجارية هي المحدد الرئيسي لأوجه استخدام إيرادات النفط، فيما لم تحظ الاستثمارات الرأسمالية إلا على الفتات الفائض مما لم يصرف بعد من إيرادات النفط. وبشكل عام جرى كل هذا في جو من انعدام الشفافية والمحاسبة الشعبية وطغيان الضبابية حول أحجام وأوجه استخدام إيرادات النفط. وبهذا تم تحويل الغالبية الساحقة من الثروة العامة النفطية، والتي كان من المفترض أن تكون منتجة ومتكاثرة، إلى مخصصات جارية خاصة تنفق بشكل متكرر، أو لمشاريع إنشائية متضخمة غير معروف مردود بعضها على المجتمع، فيما أعطيت الجهات الخاصة التي تحصل على هذه الإنفاقات حق التصرف فيها كما ترى. وهذا بدوره خلق نظرة عند غالبية الأفراد في المجتمع أن هناك كعكة نفط، ولكل شخص حق في الكعكة، بمعنى “أريد نصيبي الخاص من الكعكة كما حصل عليها غيري”، بدلاً من النظر لهذه الثروة كملك عام من الممكن ان ينمو ويتكاثر مع الزمن. وبرأيي فإن هذا هو لب الخلل الإنتاجي المتعلق بكيفية استعمال إيرادات النفط وإنفاقها.

وقد انعكس هذا التعامل مع إيرادات النفط على بقية الاقتصاد، حتى وصلنا اليوم الى مرحلة تهدده بعدم الاستدامة. وهذه الخطورة تبرز في أكثر من شكل من عدم قدرة الاقتصاد على توفير الشروط الأساسية لإعادة إنتاج نفسه. فالاقتصاد بوضعه الحالي يعتمد على ضخه بصورة متواصلة بإيرادات تصدير النفط، وذلك حتى يمول المدفوعات التي تخرج من الاقتصاد من واردات وتحويلات العمالة الأجنبية ورؤوس أموال، والتي تغادر الاقتصاد بلا عودة. وكما بينا على مدى المقالات السابقة، فإن العوامل التي تحدد دورة الاقتصاد المحلي، وطلبها على الواردات وقوة العمل من السوق العالمي ورؤوس الأموال التي تخرج من الاقتصاد، تختلف كلياً عن العوامل التي تحدد طلب السوق العالمي للنفط، وبالتالي تختلف كلياً عن العوامل التي ستحدد الإيرادات التي تحصل عليها دول الخليج من النفط. فدورة الاقتصاد المحلي تدخل فيها عوامل الطلب على السلع والغذاء والمعدات المستوردة إلخ، بالإضافة إلى عوامل الطلب على العمالة الوافدة، وأخيراً حسابات أصحاب رؤوس الأموال الخاصة حول تصدير أموالهم إلى الخارج، التي تختلف عن العوامل في الاقتصاد العالمي والتي تحدد إيرادات النفط التي تحصّلها دول الخليج. إذن، لدينا مساحتان مختلفتان: السوق المحلية، والسوق العالمية، لكل منهما عواملهما الخاصة، ولكن تربط هاتين المساحتين إيرادات النفط المحصلة من الخارج، والتي تستعملها دول الخليج لتدفع كلفة وارداتها واستثماراتها في العالم. وإذا ما عجز الاقتصاد عن تحصيل إيرادات النفط الكافية من الخارج لتلبية متطلبات دورته المحلية لأي سبب من الأسباب، فإن دورته الاقتصادية ستنقطع وتكون غير مستدامة. وبهذا أصبحت إيرادات النفط وكأنها الدم الذي يغذي جسد الاقتصاد، وان جف تدفق هذا السائل وايراداته لأي سبب من الاسباب، جفت معه شرايين بقية الاقتصاد في الخليج.

وهذا يعيدنا الى ما افتتحنا به المقال حول الخلل الإنتاجي المتمثل في ارتهان اقتصاد دول الخليج لتقلبات سوق النفط العالمي. إذا لم يتغير هذا الواقع، فليس من المستبعد ان يكون مصير الاقتصاد كالعديد من الاقتصادات التي صعدت مع موجات الطلب العالمي المرتبط بسلعة واحدة، ومن ثم هوت مع هبوط أهمية تلك السلعة. فلنا ان نتفحص تاريخ هاييتي التي كانت من أعلى مناطق العالم دخلاً في القرنين السابع والثامن عشر عندما كانت تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، كونها أكبر منتج للسكر والذي كان أهم سلعة في العالم حينها، فيما سقط اقتصادها ما ان حاصر الفرنسيون مستعمرتهم السابقة اقتصادياً بعد ثورتها من أجل الاستقلال. وإذا أردنا مثالاً أقرب الينا جغرافياً وزمنياً، فلننظر الى مصر في القرن التاسع عشر والتقلبات التي لحقت باقتصادها عندما ارتفعت أسعار القطن ومن ثم هوت بعد انتهاء الحرب الاهلية الامريكية، مما فتح المجال لاستيلاء بريطانيا على البلد مالياً ومن ثم استعمارها. وقد يكون ما ألمّ بالخليج بعد انهيار صناعة اللؤلؤ هو شبح الماضي الذي يخيم على المنطقة ان لم تتعظ، حيث تقلص عدد السكان وانتشرت المجاعات والصعوبات الاقتصادية.

قد يرى البعض ان في هذا الطرح تهويلاً مبالغاً، واتمنى حقاً ان يكون كذلك، ولكني سأختم هذا المقال بحديث يبين ضبابية المستقبل ان لم يتم تدارك الوضع سريعاً. ان النقاش الذي يسود في الأوساط النفطية مؤخراً هو إمكانية وصول العالم الى ذروة الطلب على النفطpeak oil demand على المدى المتوسط. فقد كان اغلب الحديث سابقاً يتمحور حول إمكانية دخول الاقتصاد العالمي ازمة ذروة النفط المستخرج من الأرض، نظراً لأن العالم سيستهلك النفط الرخيص ويصل الى مرحلة استخراج النفط المكلف، مما يؤدي الى تناقص النفط المستخرج وارتفاع سعره مع الزمن. أما الآن، فقد اتجه أغلب النقاش نحو وصول العالم الى ذروة الطلب على النفط على المدى المتوسط، ومن ثم يبدأ استهلاكه بالانخفاض تدريجياً حسب التوقعات. وعلى الرغم من ان ذلك لا يعني اختفاء استهلاك النفط كلياً، الا ان النزول من ذروة الطلب على النفط وما يتبعه من انخفاض في سعره، يقود حتما لهبوط الريع والايرادات التي تحصل عليها الدول المصدرة للنفط. وفيما كان المؤمنون بتناقص استخراج النفط على مر الزمن يفضلون الترشيد في انتاج النفط وإبقاءه في باطن الأرض قدر المستطاع لأن سعره سيرتفع مع مرور الوقت، ففي المقابل فإن الكثير ممن يؤمنون بإمكانية الوصول الى ذروة الطلب على النفط قد يوصوا الدول المنتجة بزيادة الإنتاج او بيع الأصول النفطية في أسرع فرصة ممكنة للاستفادة منها قبل ان ينخفض سعرها مستقبلاً. ويطرح الخبراء سببان رئيسيان قد يدفع العالم نحو ذروة الطلب على النفط، اولهما الكارثة المناخية التي تواجه الكوكب، والمطالبات المرتبطة بتخفيض استهلاك النفط ومشتقاته. اما الثاني فهو صعود انتاج السيارات الكهربائية بشكل مستمر. وبما ان قطاع النقليات هو أكبر مستهلك للنفط، فان انتشار السيارات الكهربائية سيقلل من الطلب على النفط بشكل جذري. ومن المهم التشديد على ان هناك اختلاف كبير في التوقعات حول الفترة الزمنية التي سيصل فيها العالم الى مرحلة ذروة الطلب، حيث تشير بعض التوقعات الى العام 2050، بينما ترجح أخرى العام 2030، ومقابل هذا وذاك لا زال البعض يصر ان الطلب لن يقل في المستقبل المنظور بتاتاً. لكن مما لا شك فيه ان إمكانية الوصول الى ذروة الطلب على النفط أصبح جزءاً أساسياً من النقاش الذي يشكل الحسابات والتحركات والاستراتيجيات العالمية حول مستقبل النفط.

وقد تعطي ازمة الكورونا ما يشبه “البروفة” لما قد يحصل إذا وصلنا الى مرحلة ذروة الطلب على النفط ومن ثم هبوطه. فكما بينا في المقالات السابقة، كان تأثير الجائحة الرئيسي على سوق النفط هو خفض الطلب، ولا زلنا حتى كتابة هذه السطور في خضم هبوط الأسعار ومعها مداخيل دول الخليج، مما ادخل ميزانياتها العامة وحسابها التجاري في منحنى عجز مثير للقلق. وفي كل الأحوال، فمن المتوقع ان تدخل دول الخليج مرحلة الازمات حتى لو عاد الطلب لمستوياته السابقة فيما لو تواصل الانفاق العام والاستهلاك والاستيراد في توسعه المستمر، مما سيجعلنا نواجه تبعات الخلل الإنتاجي في قطاع النفط وسوء استعمال ايراداته في مستقبل ليس بالبعيد، اذ أمسى شبح عدم الاستدامة حاضراً معنا الآن.


تحميل الملف بصيغة PDF